في هذا اللقاء قدم أكثر من عشرين عالما وباحثا من دول مختلفة، نتائج أبحاثهم في كيمياء وفيزياء تقنية النانو، وشارك بعض الباحثين السعوديين كذلك بأوراق علمية وملصقات، كما طرح بالمؤتمر عدد كبير من الأوراق العلمية المعلقة، وفاق الحضور كل التوقعات.
لم يعد التغني بأكبر مجمع تجاري ولا أطول برج في العالم مستساغاً بعد أن انتقل السباق إلى حلبة النانو أو تقنية المواد متناهية الصغر، فالدول المتقدمة كالولايات المتحدة الأمريكية واليابان والاتحاد الأوروبي تنفق المليارات لتطوير هذه التقنية وامتلاكها، هذا غير الذي تنفقه الشركات العملاقة، خاصة التي تنتج الأجهزة الإلكترونية مثل آي بي إم وسامسونج وغيرها، بل وحتى دول نامية مثل فيتنام دخلت إلى حلبة السباق، وإن كان بإسهامات متواضعة أمام العمالقة، ما يجعل الآخرين، خارج الحلبة، أقزاماً وعالة على المجتمع الدولي.
منذ سنوات قليلة ولجنا بتواضع في المملكة العربية السعودية إلى عالم النانو. ففي جامعة الملك عبد العزيز مركز التميز لأبحاث المواد متناهية الصغر، وكذلك في مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية. فما هي قصة النانو؟ ولم كل هذا الاهتمام؟
قبل الحديث عن أهمية التقنية، يجب التعرف أولا إلى حجم هذه المواد، فملعقة طعام من الماء تحمل أكثر من ألف مليون بليون تريليون ذرة. ما يعني أنه لو اجتمع سكان العالم لإحصاء ما بالملعقة من ذرات لاستغرقهم ذلك أكثر من خمسة ملايين عام ، على اعتبار أنهم يعملون 12 ساعة يوميا على مدار العام، ويحصون بمعدل ذرة كل ثانية.
قصة النانو قديمة، بدأت عندما قدم ريتشارد فايمان محاضرة بعنوان \"هناك الكثير في القاع\" عام 1995 م، أعلن فيها أن التعامل مع المواد بحجم الجزيء أو الذرة ممكن، وكان هذا الكلام وقتها من قبيل المستحيل، وضربا من الخيال العلمي، لكنه وفي عام 1985م، تمكن فريق من جامعة رايس بالولايات المتحدة من عزل جزيء كربوني يتكون من ستين ذرة كربون في شكل كرة القدم، أطلق عليها فيما بعد مصطلح \"بوكي بول\" أو الكربون 60، ونال عليها الفريق جائزة نوبل في الكيمياء عام 1996م. هذا الجزيء الكربوني صغير جداً، لدرجة أنه يمكن وضع 50.000 وحدة في مساحة لا تتجاوز سمك شعرة الإنسان.
بعد اكتشاف الكربون 60، تمكن العلماء من تصنيع أنبوب كربوني بحجم النانو، له مواصفات فيزيائية مدهشة. ثم توالت الاكتشافات، ودخلت الفيزياء والهندسة لتكامل العمل الكيميائي، وبدأت مرحلة تجارب التصنيع وقطف ثمار المعرفة.
أما أهمية هذه المواد فترجع إلى المواصفات الغريبة التي تظهر فقط في هذا الحجم، وتكمن بالدرجة الأولى لقيمتها الاقتصادية، ليس كمادة خام. بل فيما يمكن تصنيعه من هذه المواد وإنتاجه. فقد تمكنوا من إنتاج أنبوب كربوني له قوة شد لم يعرف لها مثيل من قبل ووزن خفيف، فجاءت تلو ذلك فكرة المصعد الفضائي، الذي يمكن الناس من السفر إلى الفضاء في مصعد عوضاً عن المركبات الفضائية والصواريخ اللازمة للدفع. كما أنه يمكن صناعة موصلات ذات كفاءة عالية وأثمان متدنية من الأنبوب الكربوني.
ففي درجات الحرارة المنخفضة جداً تعمل هذه الأنابيب كموصلات عملاقة (Superconductor)، يمكن استخدامها في تسيير القطارات المعلقة السريعة بتكلفة جدا منخفضة، مقارنة بالتقنية الحالية التي تستهلك كمية كبيرة من الطاقة، مما يقلل جاذبية النظام التقليدي، ويسعى العلماء الآن إلى تطوير الجزيئات الكربونية، وإعادة بنائها لتعمل في درجات الحرارة العادية.
وتمكن العلماء من صناعة مادة شبيهة بالألماس لكنها تفوقه صلابة وقوة، ويمكنها خدشه، ويمكن استخدامها في أعمال الحفر وقص الصخور، وبهذا تقل التكلفة ، بل ويمكن استخدامها بديلا عن الألماس الطبيعي في صناعة المجوهرات.
أما المفاجأة العظيمة فكانت من جامعة رايس بالولايات المتحدة، فقد تمكن العلماء من صناعة سيارة كاملة بمحرك وأربع عجلات تدور عاموديا على محور وأذرعة، والسيارة بكاملها مصنوعة من جزيء كربوني واحد، يدفعها الضوء كمصدر للطاقة، فيثير العجلات المصنوعة من البوكي بول، ويدفعها للدوران حول المحور، لتتحرك العربة. هذه العربة لا يزيد عرضها عن 3 نانومترات، أي إنه يمكن لموقف بمساحة مقطع شعرة الرأس أن يستوعب أكثر من 20.000 سيارة مرصوفة من هذا النوع... هذا هو الخيال!
والسؤال هو كيف يمكن الاستفادة من عربة بهذا الحجم؟ من سيركبها ومن سيقودها؟، والإجابة أنه يمكن أن تثبت عليها آلات للتصوير بحجم النانو، ويستطيع الإنسان قيادتها والتحكم فيها عن بعد، فتدخل إلى جسم الإنسان ودورته الدموية باحثة عن الخلل وانسداد الشرايين مثلاً، وترسل أثناء رحلتها صوراً ثلاثية الأبعاد لما تراه داخل شرايين وأوعية الدم. قد يتمكنون من وضع أذرعة تزيل الترسبات وتفتح الانسداد، بل وتنظف كل ما تجده في طريقها، ونستغني بعد ذلك عن العمليات الجراحية والقلب المفتوح.
ليس هذا كل ما في الأمر. بل هناك استخدامات طبية وإلكترونية لهذه المواد، تتزايد كل يوم.
* أكاديمي بيئي
=-=
المصدر:
جريدة الوطن - الأحد 28/06/2009 م - الموافق 6-7-1430 هـ
2829