على العموم هناك عدة مصطلحات ومسميات قريبة مما نحن بصدد الحديث عنه على الرغم من اختلاف في المعنى والمفهوم ومن ذلك على سبيل المثال ظاهرة النينو، ومصطلح النانو الذي نحن بصدد الحديث عنه، وكلمة نونو المستخدمة كثيراً في أوساط الناس. وللتفريق بين هذه الكلمات نقول أن النينو عبارة عن ظاهرة مناخية شاذة ترافقها عملية تسخين غير طبيعية لطبقة المياه السطحية في المنطقة الشرقية من المحيط الهادي وتعزى إليها بعض التغيرات المناخية، ولاشك أن الجغرافيين والمختصين بعلم المناخ لديهم الخبر اليقين عن تفاصيل تلك الظاهرة. أما كلمة النانو فهي كلمة يونانية تعني القزم أو الصغير ولعل هذا المعنى هو الذي جعل الناس يشتقون منها كلمة نونو لتدليع المواليد حديثي الولادة.
أما تقنية النانو فهي علم حديث يعنى بهندسة ودراسة الظواهر والمواد على مستوى الجزئيات والذرات وهذا ما لم يكن متاحاً في الماضي لعدم وجود التقنيات المتقدمة التي تساعد على ذلك والتي اصبحت في الوقت الحاضر في متناول العلماء والمتخصصين نتيجة للثورة التكنولوجية العارمة.
أما من الناحية التاريخية فإن منتجات النانو كانت متداولة دون معرفة كنهها أو طريقة عملها بل هي نتاج جاء بالصدفة ثم استثمر بدون معرفة السبب.. فالصينيون قبل ألف سنة استخدموا حبيبات الذهب بأبعاد النانو لطلاء الأواني باللون الأحمر وهذا غير مكن لو لم تكن حبيبات الذهب متناهية الصغر بحيث تكون بأبعاد النانو. كما استخدم الرومان حبيبات الذهب بأبعاد النانو أيضاً لتلوين الزجاج. كما أن السيوف الدمشقية التي صنعها المسلمون لم يكن لها مثيل لأنها كانت نتاج يشبه ما سبق. نعم في الماضي قام الحرفيون بمعالجة بعض المواد العادية والحصول على خصائص متميزة مثل التحكم باللون أو القوة أو الحدة دون معرفة السبب الذي ولد تلك الخصائص.
أما في الوقت الحاضر ونتيجة للثورة التقنية العارمة فقد أمكن التحكم بتلك التقنية من خلال تطوير وامتلاك ناصية تلك التقنية ويشمل ذلك الأدوات والأجهزة والمعدات والمواد اللازمة وقبل ذلك وبعد وجود العقول المؤهلة ذات الخيال الواسع والفكر النافع والجهد المتواصل. ولا زال البحث والتطوير يستشرف مزيداً من التقدم وكشف الأسرار التي أودعها الله سبحانه في أدق مخلوقاته وطلب من الإنسان التفكر فيها واكتشافها والاستفادة منها وعلى العموم فإن أول من أدخل مصطلح التكنولوجيا الثانوية هو العالم الياباني ناريو تونبجو شي عام 1974م، ثم بعد ذلك جاء العالم الأمريكي إرك ديكسلر عام 1986 وقد تم ادخال منتجات النانو إلى الأسواق عام (2000)م.
وقبل الخوض فيما توصلت إليه تقنية النانو من نتائج مبهرة وما سوف تتوصل إليه من نتائج موعودة. فقول أن النانوميتر أداة قياس تعادل جزء من مليار جزء من المتر أي أنها متناهية في الصغر ولكي يتم تخيل ذلك نبدأ بالتدرج التالي. السنتميتر عبارة عن جزء مئة جزء من المتر، والمليمتر عبارة عن جزء من ألف جزء من المتر، والميكرو عبارة عن جزء من مليون جزء من المتر، والنانو عبارة عن جزء من مليار جزء من المتر، أما الانجستروم فهو عبارة عن جزء من عشرة مليارات جزء من المتر، ولاشك أن هناك ما هو أصغر من ذلك. ولتقريب الخيال أكثر نقول ان سمك شعرة الإنسان يتراوح بين (50-100) ألف نانو، وحجم خلية الدم الحمراء في حدود (70) ألف نانومتر، كما أن العين المجردة لا تستطيع رؤية الأشياء التي يقل حجمها عن (10) آلاف نانوميتر.
وعلى العموم تتلخص فكرة استخدام تقنية النانو في إعادة ترتيب الذرات التي تتكون منها المواد في وضعها الصحيح. وكلما تغير الترتيب الذري للمادة كلما تغير الناتج منها إلى حد كبير. وبمعنى آخر تعتمد خصائص المنتجات على كيفية ترتيب الذرات في ذلك المنتج. فعلى سبيل المثال إذا أعدنا ترتيب الذرات في عنصر الفحم يمكننا الحصول على الألماس وإذا قمنا بإعادة ترتيب الذرات في الرمل وأضفنا بعض العناصر القليلة تمكنا من صنع دقائق الكمبيوتر. ويعكف العلماء الآن على دراسة التحكم في ترتيب الذرات والجزئيات بصورة أفضل وبتكلفة أقل وإذا تمكنوا من ذلك فإنه سوف يصبح بإمكانهم تحويل مادة إلى أخرى وتحقيق حلم قديم وهو تحويل المعادن الرخيصة إلى معادن ثمينة إلا أن ذلك سوف يجعل المعادن الثمينة الآن رخيصة لأنها سوف تصبح متوفرة وليست نادرة. والكل يعلم أن سبب غلائها هو ندرتها.
وعلى أية حال هناك طرق عديدة لتحضير مواد النانو وهذا يعني ان المادة نفسها يمكن تحضيرها بطرق مختلفة. هذا وقد تم تصنيف طرق انتاج مواد النانو إلى قسمين رئيسين هما:
طرق تحضير من الأعلى إلى الأدنى (Top-doan) وهذه العملية تشبه عملية النحت حيث تبدأ العملية من مادة كبيرة ومقابلتها بوسائل فيزيائية مثل النحت والطحن والبرد أو باستخدام وسائل كيميائية مثل معاملتها بواسطة بعض الأحماض.
أما الطريقة الثانية فهي طرق التحضير من أدنى إلى أعلى (Bottom - up) وهذه عكس الطريقة السابقة وهنا يتم تحضير مادة النانو من خلال بنائها انطلاقاً من ذرات أو جزئيات حيث يتم ترتيبها مع بعضها البعض حتى تصل إلى الحجم والشكل المرغوب وهذه العملية تشبه عملية بناء الجدار.
أما أشكال مواد النانو فهي يمكن أن تكون على شكل حبيبات أو أنابيب أو أعمدة أو شرائح دقيقة أو أشكال أخرى ولا زال العلماء والباحثون ينتجون كل يوم شكلاً جديداً والكل ينتمي إلى عالم المواد المتناهية الصغر. كما أن المواد المتناهية الصغر يمكن تقسيمها إلى مواد متناهية الصغر المهيكلة السطح، والمواد المتناهية الصغر المهيكلة بالحجم كما يمكن أن تضاف المواد المتناهية الصغر إلى مواد أخرى والحصول على المواد المقواة أو المشحونة بالمواد المتناهية الصغر.
وبما أن تقنية النانو أصبحت واقعاً حقيقياً في العصر الحاضر فقد اتفقت الدول العظمى وفي مقدمتها اليابان وأمريكا والصين وألمانيا على أهمية التركيز على الاستثمار في تقنية النانو وتخصيص مبالغ ضخمة لهذا الغرض، هذا وقد وصلت في اليابان إلى مليار دولار وفي أمريكا إلى الترليون دولار حتى عام (2015)م كما يقدر عدد العلماء الذين لديهم القدرة على العمل في هذا المجال في أمريكا وحدها ب(40000) عالم.
نعم إن تقنية النانو قد غزت كل التخصصات والمجالات فتطبيقاتها عامة وشاملة وهذا ما حدا بالعالم الاهتمام بها وأخذ موضوع البحث التطبيقي فيها مأخذ الجد، ولعلي هنا استعرض أهم التطبيقات التي برزت أو سوف تبرز في المستقبل القريب والتي يمكن ان ألخص بعضاً منها في العجالة التالية:
تدخل تقنية النانو في هندسة الاتصالات حيث دخلت تقنية النانو في صناعة أجهزة التلفونات المحمولة، لذا سوف تصبح الشاشة مرنة وشفافة مما يؤدي إلى تمددها على شكل شاشة كبيرة لأغراض التصفح أو تقليصها حتى تصبح في حجم الاصبع في حالة استعمالها في المكالمات العادية كما يمكنها تنظيف نفسها من بصمات الأصابع.
أما في الأقمار الصناعية فإن لتقنية النانو دوراً كبيراً فيما يتعلق بالحجم أو الوزن والفعالية ناهيك عن خفض التكلفة إلى ما يساوي أقل من عُشر التكلفة الحالية ليس هذا فحسب بل أن تقنية النانو قد غزت عالم الحواسيب وقطع غيارها المختلفة، كما أن المستقبل ينبئ بتطبيقات لا حدود لها في عالم الاتصالات.
دخلت تقنية النانو في صناعة الدواء حيث يمكن أن تقوم المواد النانونية بحمل الدواء إلى مواضع لم يكن بالامكان الوصول إليها من قبل، كما أمكن تحضير مواد قاتلة للبكتيريا والفيروسات والفطريات أقوى من المضادات الحيوية المعروفة حالياً وتسمى النانو بيوتكس وهذا النوع لا تستطيع الكائنات الحيوية توليد مناعة مضادة له. وبعض هذه الأدوية اكتشف والبعض الآخر تحت الاختبار، كما أنه بواسطة تقنية النانو أمكن مواجهة الأمراض الداخلية في الجسم والناجمة عن قصور في أداء الخلية الحية أو تلفها أو النمو الشاذ لها.
النانو ومرض السكر: تم تطوير جهاز نانوي يمكن زراعته داخل الجسم وهو يغني المصابين بمرض السكر عن حقن الانسولين. وقد نجحت التجارب في استخدام ذلك الجهاز في الفئران المصابة بمرض السكر مما سوف يفتح المجال لزراعة البسمة على شفاه ملايين البشر عند استعماله ونجاحه.
في علاج السرطان: يستطيع العلماء استخدام تقنية النانو لتصميم جهاز دقيق جداً له القدرة على التعرف على خلايا السرطان وقتلها بواسطة سموم خاصة يتم حقنها فيها أو تفجيرها كما يمكن لهذا الجهاز الارتباط بأكثر من (12) نوعاً من البروتينات في نفس الوقت بينما الأجسام المضادة الحالية لا تستطيع الارتباط بأكثر من نوع واحد من البروتين.
صناعة خلايا الدم الحمراء: هذا الحلم كان وما زال يراود العلماء وذلك لأن السبب الرئيسي لدمار الخلايا والأنسجة عدم قدرة الجسم على ايصال كمية كافية من الاكسجين إلى تلك الخلايا والأنسجة خصوصاً في حالة حدوث هبوط في الدورة الدموية أو في حالة النزيف الشديد. ولحل هذه المشكلة يفكر العلماء باستخدام تقنية النانو لصناعة خلايا دم حمراء وذلك عن طريق تصميم كرة نانونية مفرغة تتم تعبئتها بالاكسجين المضغوط الذي يتم التحكم بخروجه منها بمعدل ثابت. وبسبب صغرها المتناهي فمن المؤمل أن تصل إلى كل مكان في الجسم عبر الدورة الدموية.
هذا من ناحية ومن ناحية أخرى يمكن تصنيع مصنع للطاقة متجول يمكنه تزويد الخلايا غير القادرة على حرق الطعام بالطاقة اللازمة لاستمرار بقائها حية وفي نفس الوقت تستطيع امتصاص المواد الناتجة عن عملية حرق الطعام، ولكن قبل ذلك كله يحتاج العلماء إلى مزيد من الدراسة على عمليات الايض وتركيب الخلية وأساليب عملها على مستوى النانوميتر.
تستخدم تقنية النانو في عمليات التشخيص سواء كان ذلك في صبغات الاشعة الطبية أو تشخيص بعض الأمراض الميكروبية بحيث تلصق جزئيات النانو بأجسام مضادة تذهب لتلتحم بالميكروب داخل الجسم ومن ثم يمكن التقاط إشارات من جزئيات النانو لتشخيص الإصابة بهذا الميكروب أو ذاك.
في العمليات الجراحية: يمكن أن تستخدم تقنية النانو في عملية لحام الأوعية الدموية عند تمزقها أو قطعها دون الحاجة إلى الخياطة الجراحية المعتادة وكذلك في عمليات الجراحة الأخرى.
وفي مجال الطاقة أصبح لتقنية النانو باع طويل كان ذلك يتعلق بالطاقة النووية أو الشمسية أو خلايا الوقود أو غيرها من مصادر الطاقة حيث ان تلك التقنية سوف يكون لها باع طويل في كل أو بعض مراحل إنتاج الطاقة وتحسين كفاءتها. ولتقنية النانو تطبيقات أخرى. والله المستعان.
=-=
المصدر:
جريدة الرياض - 8-5-2009 - العدد 14928